لم ترضه الإجابة التي حصل عليها من أحد الأصدقاء عندما سأله عن امكانية "اللعب" في رباعيات جاهين، أو خلط رباعيتين ببعضهما، ولم يعجبه تعامل هذا الصديق مع الموضوع كمزحة وعدم اعطاءه الأهمية الكافية من وجهة نظر صاحبنا المفتون.
كان يعشق صلاح جاهين؛ و فكرة وجود مبدع كجاهين كانت متعبة بالنسبة له لأسباب ربما لن يفهمها غير المبدعين ، ولذلك كان تجرؤه على اللعب في نصوص "جاهينية" أمر يستأهل أن نقف أمامه طويلا، وأنا هنا لا أتكلم عن وقفة فلسفية نحاول فيها تحليل دلالات الخلط وسبب اختيار هاتين الرباعيتين بالذات، فهذا نوع من الوقفات لا يفعله إلا السفهاء والمدعون والصحفيون..وساء أولئك سبيلا.
أنا - وبشكل شخصي جدا - أظن أنه لم يختر أو يفكر، و أغلب الظن أن كل ما يقوله أو يفعله من أشياء يستغربها الناس هي بعض من إرهاصات الفتنة وهوامشها. خاصة أنه كان يعاني من داء "الصمت"، أو بالأحري "عدم القدرة على الكلام" ، وإذا حدث له ما يؤثر فيه بشدة ولم يستطيع الكلام عنه بشكل مباشر، وهذا يحدث كثيرا، كان يستبدل المباشرة بهذه الإبداعات الألمعية التي كان لزاما علىّ - دون جميع الناس- أن أتقبلها واتعامل معها.
لكن كل هذه الإبدعات في كفة، وما فعله - وما أبدعه - بعد عودته من أحد لقاءتهما في كفة أخري، كان شكله غريب وكلامه أغرب و .. لحظة واحدة.. هذا ليس موضوعنا الآن، لأن هذا هامش آخر.
إذا كان من الصعب اختيار طريقة ومكان الموت؛ فإنه من المستحيل اختيار كيفية الوقوع في الحب.
الهامش الثاني:
هل هناك قدر من الحكمة يكمن في هذه العبارة؟.
ربما!. لكنه لم يتوقف أمام مكامن الحكمة - التي هي ضالة المؤمن- طويلا، إدركا منه لصعوبة أن يترقي مفتون في مراتب الإيمان. خاصة أنه كان يترقي كل يوم، و في رواية أخري في كل يوم عدة مرات، بين مراتب الفتنة.
على سبيل التغيير:
وعلى الهامش -أحيانا- هامش آخر
كلما اقتربنا من ذكر هذا الموضوع تلعثم وتخبط وفقد القدرة على الإسترسال، لكني وبصعوبة بالغة استطعت أن أكون - من جمله الناقصة ونظراته الموحية - فكرة عامة عما يدور بداخله. كان يعرف أنها تقصد مضايقته واستفزازه كثيرا، وكانت تعرف أنه يعرف، وكان يعرف أن هذا شيء يسعدها ويجعلها تبتسم في صفاء تحسدها عليه ليالي الصيف المقمرة؛ وكان يري أن هذا سبب كاف لأن يستسلم تماما لشقاوتها الطفولية.
وبابتسامة عريضة ونظرة حالمة، أو بلهاء، كان يحكي.. يحكي عن استفسارها الشرير المغلف ببراءة، بعد كل موقف تتعمد مضايقته فيه،: " ايه؟..مالك؟"، عن انتظاره لضحكتها التي تعقب دائما هذا السؤال، عن صمته الذي يطول بعد ذلك، عن انقسامه على نفسه و عن جزء منه يلومه على الصبر وتحمل مالم يتعود على احتماله، وجزء يؤيد الصمت ويدعوه لإحتضانها فورا وبدون أي تردد.. وعن انحيازه الشديد لهذا الأخير.
فتنتني فاتنة فصرت مفتوناً؛ وأحمد الله على ضعف الإيمان.
الهامش الأول:
كانت هذه كلماته التي لم يقل غيرها تقريبا في أيامه الأخيرة، كان يمشي بين الناس ذاهلا عنهم، يرونه ولا يراهم، يحدثونه ولا يرد عليهم. حتى ظنوه يتعمد تجاهلهم، فاختلفوا عليه و حوله. منهم من قرر أن يتجاهله بدوره كرد فعل ، ومنهم من أصابه القلق فحاول أن يعرف حقيقة هذا التغيير، ومنهم من اعتبر هذا التجاهل اهانة شخصية يجب أن يرد عليها بأكبر منها.
لكنه لم يعرهم اهتماما، أو لنقل الحقيقة هو لم يلتفت أصلا لكل هذا ولم يدرك حدوثه. حتى عندما حاول أن ينبهه البعض " القلق" لخطورة فقدان الأصدقاء نتيجة التجاهل، تسائل في براءة - حقيقية- أية تجاهل..وأي أصدقاء؟
تفاقمت الأمور، وبدأ البعض " الغاضب" في الرد على ما اعتبروه اهانات. وضعوا القاذورات على بابه و أطلقوا عليه نكات لا تقل قذارة، كانو إذا ظنوا أنه نوي الصلاة، في محرابها، حاولوا تعطيله قدر جهدهم، و إذا دخل في الصلاة نعتوه بالكفر والرياء.
ولكن هل أحس -صديقنا المفتون- بكل هذا؟، هل التفت إلي هذه الأفعال؟.
نعم فعل.. وبدأ شعوره بالغضب يتزايد، لكنه لم يغضب - أبدا- من تجاهل أو حقارة، وإنما من نجاح - ولو مؤقت- في تعكير صفو صلاته؛ ولكن دائما ما كان يسبق حبه غضبه فيتناساه، معتبرا إياهم مجرد هوامش على دفتر الفتنة.
أما "الفاتنة" صاحبة الفتنة فكانت دائما ما تضحك من غضبه، وكثيرا ما كان يمسها إيقاع العبث الطفولي فتلعب على هذا الوتر فتثيره أكثر.. لكن هذا هامش آخر.
اعذرني يا صديقي فأنا كنت أتمني أن أكتب عنك، أو لك، وأنا في حالة أفضل من هذه. لكني تعودت أن تتقبلني في أي حالة كنت، تعودت أن تتحمل سخافاتي التي لاتنتهي، وتغيراتي المزاجية غير المبررة. تعودت على هذا وإن كان خطأ.. فأنت الذي عودتني عليه.
ألمح ضحكة خبيثة وفكرة أخبث تتراقص في مخيلة بعضهم، ولكني - ياصديقي- أعذرهم. فليس من الطبيعي أن يتكلم صديق بهذه المفردات عن صديقه.. وهذا عذرهم، ولكن، و في نفس الوقت، لايوجد منهم من لديه صديق مثلك..وهذه حجتي.
اليوم عيد ميلادك، وهي بالطبع "تلكيكة" سخيفة كي أكتب عنك، فمثلك لا يحتاج مناسبة حتى يكتب عنه، و لكن مثلك - وهم ندرة يا صديقي- من الصعب جدا أن يخط فيه حرف. فاعذرني - كما عودتني- علي كتابة متخبطة، وحالة مشوشة.
لاحظت الآن وأنا أعيد قراءة ما كتبت أني لم أذكر اسمك صراحة، ولكن أؤكد أنني لا أحتاج لأن أفعل.. فإن أنا قلت صديقي فالمقصود - بالضرورة - واضح.
كل عام وأنت بألف خير يا صديقي..كل عام وأنت في منتهي الطيابة يا سيد.
أهم مؤهلات كاتب الرأي في مصر أن يكون قد تجاوز الخمسين من عمره، وقليلون هم من يشذون عن هذه القاعدة، وربما يعود هذا إلي أنه في هذا العمر تأخذ كل الأحداث بعدا آخر، ويصبح مجرد استيقاظ أحدهم مبكرا حدثا يستلزم كتابة مقالة طويلة عن الخواطر التي أوحي له بها هذا الصباح، فكيف الحال إذا ركب أتوبيس مثلاً؟ أو جمعته الصدفة بمجموعة من الشباب؟.
لماذا تتحول كل الأحداث العادية إلي شيء مدهش لمجرد أنها حدثت أمام الكاتب الكبير( سناً بطبيعة الحال) ، وما ذنبنا إن كان اكتشافه لحجم البطالة في مصر -مثلا- متأخرا بهذا الشكل؟
على أية حال هذا هو الحال. وليس أمامنا إلا أن نتقبله، و تأكيدا مني على تقبله كتبت هذه المقالة متقمصا روح كتابنا الكبار، و إمعانا في التأكيد أهديها لهم جميعا متنازلا عن كل حقوق الملكية الفكرية.
ملحوظة: المقالة بها بعض الأخطاء في الكتابة والكثير من الأخطاء في المنطق، وأنا أبرئ نفسي من هذه الأخطاء فهي في البداية - كما قلت- ليست لي، وهي في النهاية - كما تعرفون- طريقتهم في الكتابة.
أحمد حربية
صراع الأجيال..!
(1)
جمعتني الصدفة بعدد من المدونين والصحفيين الشبان، وامتد اجتماعنا هذا قرابة الثلاث ساعات ما بين تعارف و تحاور ثم نقاش.
كنت إذا تكلمت معهم مبتسما ابتسامة "انتم قليلو الخبرة يا سادة" نظروا إلي نظرة " وانت لا تدري شيئا عن عالمنا أو أحلامنا يا عجوز".. حالة تأهب شديدة سيطرت عليهم تماما حتى شعرت بأن الجلسة تم تقسيمها إلي شباب كلهم روح وتحدي وعجوز مسكين لا يملك أمام هذا الإتحاد إلا الإذعان.
استمر الوضع على هذا الحال حتى تغير مسار الحديث بعض الشيء وانشغلوا عني بالحديث عن حملة جديدة يفكرون في اطلاقها عبر المدونات، فانتهزت هذه الفرصة وأخذت أفكر في طريقة لكسر تقسيم الجلسة هذا التقسيم العمري..
(2)
عرفت من اللحية الخفيفة المعتني بها جيدا، و طريقة الكلام المتحفظة بعض الشيء.. هذا غير نوعية الكلام نفسها وطبيعة الاهتمامات ، أن " عبد العظيم" لديه ميول إخوانية، ولهدف لا أعلمه قررت ان أبدأ به. سألته عن طريقة التعامل مع الحاكم إذا جاء بالإنتخاب ثم قرر أن ينقلب على الديموقراطية التي أتت به؟، سكت الجميع ونظروا إليه منتظرين الإجابة فأدركت أن خطتي نجحت.
نظر إلي عبد العظيم بحدة ثم قال بهدوء ساخر " المبدأ معروف يا أستاذ.. إما اعتدلت..وإما اعتزلت". استرخيت في جلستي وقلت له "هكذا إذن"!.. " يا صديقي هو لن يعتدل من تلقاء نفسه بأي حال من الأحوال، وأنت أدري الناس بأن الحكم شهوة.. شهوة تحتاج لكبتها قوة ضغط خارجي يجب أن تملكها حتى تطلق مثل هذا التحذير..أليس كذلك؟"
توتر الجو بعض الشيء و أخبرتني ابتسامة " مجدي" أنه نتظرني كي أجهز عليه فأكملت مخاطبا عبد العظيم " وإن كان الإعتدال أمر فيه شك فإن عزل حاكم له خلفيات اسلامية أمر في عرف المستحيل". كاد الدم يقفز من وجه الشاب وسألني صارخا " لماذا؟ وما اسباب استحالته إن شاء الله؟" رددت عليه بهدوء .. لأن العزل مكروه يا صديقي.
(3)
مجدي لم يكن يحتاج لأن يتكلم حتى أتبين اتجاهته اليسارية، وأكاد أقسم أنني لم أرى في حياتي- وهي ليست بالقصيرة- شخصا يعكس طبيعة افكاره مثلما انعكست أفكار مجدي عليه.
كان مثل "عبد العظيم" لديه لحية نامية لكنها كانت مشعثة و مهملة- وكأنه اهمال عن قصد-، ابتسامته متوترة وإذا تجادل مع أحد تعمد أن يتعمق في التفاصيل حتى يكاد من يتكلم معه أن ينسي الموضوع الأصلي، وإذا تكلم هو جاء كلامه عاما دون أي تخصيص حتى لتشعر أنه سيقول لك نظرية واحدة يحل بها مشاكل العالم والعالمين.
تحدثت ومجدي عن الحلم اليساري، داعبته قليلا حول العدد الهائل لفرق اليسار في مصر واختلافاتهم، وتركته يسهب في الحديث عن عدالة التوزيع و الأممية والثورة، حتى عرفت أبعاد معلوماته وحجم ثقافته. ثم قلت له " أتعلم يا مجدي أنني من أكبر المؤيدين للحلم اليساري؟" رد على بابتسامة متوترة -كالعادة- وهم أن يسألني أي يسار أقصد لكنه آثر الصمت، فأكملت قائلا " لكني في نفس الوقت أظن أنه لا يتجاوز كونه حلم رومانسي جميل..لن يتحقق أبدا"، هدأت ابتسامة مجدي لأول مرة فعرفت أنه يحفظ إجابة هذا التعليق وينتظرني أن أكمل حتى يرد علي رده المفحم(المحفوظ)، سكتُ للحظات حتى أوشك هو أن يتكلم فأكملت مسرعا ناهيا إياه عن مقاطعتي إلا بعد إكمال الكلام لأن هذا من أدب الحوار، ثم نظرت إلي "عبد العظيم" متسائلا " أليس كذلك يا صديقي"؟ وهنا أوشك وجه مجدي أن ينفجر من احتقان الدم، تصنعت الجدية مرة أخري، ثم قلت بلهجة تقريرة " وعلى أية حال فإن انضمام الناس عامة والمصريين خاصة إلي ثورتكم المأمولة أمر مستحيل".
أخذ نفس عميق ثم سألني -دون أن يدري- نفس سؤال عبد العظيم " لماذا؟ وما اسباب استحالته إن شاء الله؟" رددت عليه بهدوء .. لأنها، وببساطة، حمرا يا صديقي.
(4)
للآسف لم أستطع الجلوس معهم اكثر من ذلك فقد كنت مرتبطا بأكثر من موعد، استأذنتهم في الإنصراف متمنيا أن نلتقي مرة ثانية، ودعوني بإبتسامات باهتة، و تأكيد على ضرورة أن يكون هذا اللقاء في أقرب وقت ممكن. وانصرفت متأكدا أن هذا اللقاء -الثاني- لن يحدث ولو من قبيل الصدفة.
لا فكرنا واحد ولا عمرنا واحد ولا احنا حتي قرايب ...اما الحاجات المشتركة هاتعرفوها لما تقروا... آه احنا الإتنين شغالين في الصحافة،جمعنا الدستور لكنه لم يقدر على تفريقنا!